فصل: باب ما جاء في المساكين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء في المساكين

1710- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قالوا فما المسكين يا رسول الله قال الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن الناس له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس‏.‏

1711- مالك عن زيد بن أسلم عن بن بجيد الأنصاري ثم الحارثي عن جدته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ردوا المسكين ولو بظلف محرق قال أبو عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ردوا المسكين فبان بذلك أنه أراد السائل الطواف وقال في الحديث الذي قبله ليس المسكين بالطواف فدل على أنه أراد ليس الطواف بالمسكين حقا إنما المسكين حقا المسكين الذي تبلغ به المسكنة والفقر والضعف والحياء مبلغا يقعده عن التطواف والسؤال ولا يفطن له متصدق عليه ولا يجد شيئا يبلغ به كما قال الله عز وجل ‏(‏ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب‏)‏ ‏[‏البقرة 177‏]‏‏.‏

أي ليس فعل ذلك وإن كان برا يبلغ به الأمر ‏(‏ولكن البر من آمن بالله واليوم الأخر والملائكة والكتب والنبين وءاتى المال على حبه‏)‏ ‏[‏البقرة 177‏]‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصيام في السفر أي ليس كل البر لأن الفطر في السفر بر أيضا فقال يحيى في روايته في هذا الحديث فما المسكين وتابعه جماعة من رواه الموطأ وقال غيرهم فمن المسكين وهذا أبين في من يعقل وأشهر في كلام العرب قال أبو عمر قال الله عز وجل ‏(‏إنما الصدقت للفقراء والمسكين‏)‏ ‏[‏التوبة 60‏]‏‏.‏

واختلف العلماء وأهل اللغة أيضا في الفقير والمسكين فقال منهم قائلون الفقير أحسن حالا من المسكين قالوا والفقير الذي له بعض ما يقيمه ويكفيه والمسكين الذي لا شيء له وممن قال هذا يعقوب بن السكيت وبن قتيبة وهو قول يونس بن حبيب وذهبت إليه طائفة من أهل الفقه والحديث واستشهد بعض قائلي هذه المقالة بقول الراعي‏:‏

أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد

فذكروا أنه كان يدعي الفقر وله الحلوبة يومئذ وقال آخرون المسكين أحسن حالا من الفقير واحتجوا بقول الله عز وجل ‏(‏أما السفينة فكانت لمسكين يعملون في البحر‏)‏ ‏[‏الكهف 79‏]‏‏.‏

فأخبر أن المسكين كان يملك سفينة أو بعض سفينة تعمل في البحر وقال الله عز وجل ‏(‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيمهم لا يسئلون الناس إلحافا‏)‏ ‏[‏البقرة 273‏]‏‏.‏

وزعموا أن بيت الراعي لا حجة فيه لأنه إذ صار فقيرا لم يكن له حلوبة لقوله كانت حلوبته وقالوا الفقير معناه في كلام العرب المفقر ويريدون الذي نزعت فقرة من ظهره من شدة الفقر وأنشدوا قول الشاعر‏:‏

لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير الأعزل

قيل أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع ظهره ولصق بالأرض قالوا وهذا هو الشديد المسكنة والمسكين حقا واستدلوا بقول الله عز وجل ‏(‏أو مسكينا ذا متربة‏)‏ ‏[‏البلد 16‏]‏‏.‏

أي قد لصق بالتراب من شدة الفقر وهذا يدل على أن ثم مسكينا ليس ذا متربة وقال صلى الله عليه وسلم إني أعوذ بك من الفقر المدقع وهو الذي يقضي بصاحبه إلى الدقعاء وهي التراب وهذا مثل قول الله تعالى ‏(‏أو مسكينا ذا متربة‏)‏ ‏[‏البلد 16‏]‏‏.‏

وممن ذهب إلى أن المسكين أحسن حالا من الفقير الأصمعي وأبو جعفر أحمد بن عبيد وهو قول الكوفيين من الفقهاء فيما ذكر الطحاوي عنهم وهو أحد قولي الشافعي وللشافعي قول آخر أن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم وإلى هذا ذهب بن القسم حدثني عبد الرحمن بن يحيى قال حدثني علي بن محمد قال حدثني أحمد بن داود قال أخبرنا سحنون قال حدثني بن وهب قال أخبرني أشهل بن حاتم عن بن عون عن محمد بن سيرين قال قال عمر - رضي الله عنه - ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب‏.‏

وأما حديثه عن زيد بن أسلم عن بن بجيد فابن بجيد اسمه عبد الرحمن بن بجيد بن قيظي الأنصاري أحد بني حارثة وهو الذي رد على سهل بن حثمة حديثه في القسامة وقال بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث والله ما كان سهل بأكثر علما منه ولكنه أسن منه وقد ذكرنا خبره في باب القسامة من هذا الكتاب وذكرنا جدته في كتاب النساء من كتاب الصحابة وهي أيضا جدة عمرو بن سعد بن معاذ والله أعلم وليس في حديث بن نجيد عن جدته أكثر من الحث على الصدقة بالقليل والكثير وقد مضى هذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب مشروحا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم اتقوا النار ولو بشق تمرة وروى هذا الحديث سعيد المقبري عن بن نجيد حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن خالد قال حدثني علي بن عبد العزيز قال حدثني الحجاج بن منهال قال حدثني حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن نجيد عن جدته أم نجيد قالت قلت يا رسول الله إنه يأتيني السائل فأتوهد له بعض ما عندي فقال ضعي في يد المسكين ولو ظلفا محرقا‏.‏

باب ما جاء في معى الكافر

1712- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل المسلم في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء قال أبو عمر أما حديث أبي هريرة هذا وما كان مثله فليس فيه إلا مدح المؤمن بقلة رغبته في الدنيا وزهده فيها بأخذ القليل منها في قوته وأكله وشربه ولبسه وكسبه وأنه يأكل ليحيى لا ليسمن كما جاء عن الحكماء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما ملأ بن آدم وعاء شرا من بطنه حسب بن آدم أكلات يقمن صلبه ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وذلك معروف في أشعارها فكيف بأهل الإيمان‏.‏

وأما من عظمت الدنيا في عينه من كافر وسفيه فإنما همته في شبع بطنه ولذة فرجه‏.‏

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن حق المؤمن شأنه يأكل في معى واحد وهذا مجاز دال على المدح في القليل من الأكل والقناعة فيه والاكتفاء به‏.‏

1713- مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف كافر فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن يشرب في معى واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء قال أبو عمر هذا الحديث ليس على ظاهره لأن المشاهدة تدفعه والمعاينة ترده والخبر يشهد بأن الكافر يسلم وأكله كما كان وشربه وقد نزه الله رسوله عن أن يخبر بخبر فيؤخذ المخبر عنه على خلاف ذلك هذا ما لا يشك فيه المؤمن وكنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن ذلك الضيف بخبر كان على ما أخبر لا شك فيه كأنه قال هذا الضيف إذ كان كافرا أكل في سبعة أمعاء فلما أسلم بورك له في إسلامه فأكل في معى واحد يريد أنه كان أكله عنده قبل أن يسلم سبعة أمثال ما أكل عنده لما أسلم إما لبركة التسمية التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشبعه الله عز وجل بحلاب تلك الشاة وما وضع له فيها من البركة ما يكون له برهانا وآية ليرسخ الإيمان في نفسه وذلك - والله أعلم لما علم الله تعالى من قلة الطعام يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتكون آية لذلك الرجل فأراه الله في نفسه آية في إيمانه ليزداد يقينا ونحو هذا مما يعلم من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا في بركة الطعام الذي أكل منه العدد الكثير فشبعوا وهو قوت واحد أو اثنين وآياته وعلاماته في مثل ذلك كثيرة قد ذكرنا منها في مواضع من التمهيد ما يشفي الناظر ويزيد في يقين المؤمن - والحمد لله كثيرا وهذا كله يدل على أن لفظ هذا الحديث خرج مخرج العموم ومعناه الخصوص وهو موجود في لغة العرب قال الله عز وجل ‏(‏الذين قال لهم الناس‏)‏ آل عمران 173 ومعلوم أن الناس كلهم ‏(‏قد جمعوا لكم‏)‏ آل عمران 173 وقد قيل إن المخبر القائل ذلك القول كان رجلا واحدا وقد يسمع السامع قولا فيتناوله على العموم ولم يرد به المخبر إلا الخصوص كما قال صلى الله عليه وسلم إنما الربا في النسيئة وهذا كان منه جوابا لسائل سأله عن ذهب وفضة أو ما كان مثلهما مما حرم فيه الربا من جنسين مطعومين فأجابه أنه لا ربا إلا في النسيئة يعني في ما سألت عنه وقد روي في هذا الباب حديث فيه دلالة على أنه أريد بذلك رجل بعينه حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني زيد بن الحباب قال حدثني موسى بن عبيدة قال حدثني عبيد الله بن سلمان الأغر عن عطاء بن يسار عن جهجاه الغفاري أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فلما سلم قال ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلم يبق في المسجد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيري وكنت رجلا عظيما طوالا لا يقدم علي أحد فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله فحلب لي عنزا فأتيت عليها ثم حلب لي أخرى فأتيت عليها حتى حلب لي سبعة أعنز فأتيت عليها ثم أتيت بثومه فأتيت عليها فقالت أم أيمن أجاع الله من أجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه يا أم أيمن أكل رزقه ورزقنا على الله عز وجل وذكر الحديث وفيه أنه أسلم ثم ذهب به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وتركه أصحابه لطول جسمه وعظمه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبت له عنز واحدة فشربها فروي قال فرويت فشبعت فقالت أم أيمن يا رسول الله أليس هذا ضيفنا فقال بلى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أكل في معى مؤمن الليلة وأكل في معى كافر والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد يريد ذلك الرجل بعينه - والله أعلم‏.‏

باب النهي عن الشراب في آنية الفضة والنفخ في الشراب

1714- مالك عن نافع عن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم قال أبو عمر لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث إلا بن وهب وطائفة قالوا فيه عن مالك عن نافع عن زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الله بن أبي بكر الصديق والأكثر يقولون كما قال يحيى عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو الصواب وكذلك رواه عبيد الله بن عمر حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي يشرب أو يأكل في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم واختلف فيه على نافع اختلافا كثيرا ذكرناه في التمهيد والصحيح عنه في إسناده ما رواه مالك وعبيد الله ومن رواه عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ فيه واختلف في المعنى المقصود إليه بهذا الحديث فقالت طائفة من العلماء إنما عنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله هذا المشركين والكفار من ملوك الفرس والروم وغيرهم الذين يشربون في آنية الفضة فأخبر عنهم وحذرنا أن نفعل فعلهم ونتشبه بهم وقال آخرون بل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الشرب في آنية الفضة فمن شرب فيها بعد علمه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقد استوجب الوعيد المذكور في الحديث إلا أن يعفو الله عنه فإنه تبارك اسمه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وأجمع العلماء على أنه لا يجوز لمسلم أن يشرب ولا يأكل في آنية الفضة وآنية الذهب عندهم كذلك أو أشد لأنه قد جاء فيها مثل ما جاء في آنية الفضة وقد تقدم من رواية عبيد الله بن عمر تسوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وروى شعبة عن الحكم عن بن أبي ليلى عن حذيفة أنه استسقى فأتاه دهقان بإناء فضة فرماه به وقال إني لم أرمه به إلا أني نهيته فلم ينته وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير والديباج وعن الشرب في آنية الذهب والفضة وقال هي لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة ورواه مجاهد عن بن أبي ليلى عن حذيفة مثله وروى شعبة وأبو إسحاق الشيباني عن أشعث بن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد عن مقرن عن البراء بن عازب قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الفضة وقال من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد واختلف العلماء في جواز اتخاذ أواني الفضة بعد إجماعهم على أنه لا يجوز استعمالها لشرب ولا غيره فقالت طائفة يجوز اتخاذها كما يجوز اتخاذ الحرير والديباج ولكنها لا يستعمل شيء منها وتزكي إن اتخذت وقال الجمهور من العلماء إنه لا يجوز اتخاذها ولا استعمالها ومن اتخذها كان عاصيا باتخاذها قال أبو عمر معلوم أن من اتخذها لا يسلم من بيعها أو استعمالها لأنها ليست مأكولة ولا مشروبة فلا فائدة فيها غير استعماله فكذلك لا يجوز اتخاذها عند جماعة الفقهاء وجمهور العلماء وكلهم مجمعون على إيجاب الزكاة فيها على متخذها إذا بلغت النصاب من الذهب أو الفضة أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني عبد الحميد بن أحمد قال حدثني الخضر بن داود قال حدثني أبو بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل وقيل له رجل دعا رجلا إلى طعام فدخل فرأى آنية فضة فقال لا يدخل إذا رآها وغلظ فيها وفي كسبها واستعمالها وذكر حديث حذيفة المذكور وحديث أم سلمة حديث هذا الباب وحديث البراء أيضا قال أبو عمر اختلف العلماء في الإناء المفضض على ما قد ذكرناه عنهم في التمهيد‏.‏

وأما قوله إنما يجرجر في بطنه نار جهنم فالجرجرة ها هنا صوت الماء في حلق الشارب أو في الإناء المقصود به صوت جرع الشارب إذا شرب وهي كلمة مستعارة مأخوذة من جرجرة العجل من الإبل وهي هديره وصوت يسمع من حلقه يردده قال امرؤ القيس ‏(‏إذا سافه العود النباطي جرجرا أي رغا لبعد الطريق وضعوبته وقال الراجز يصف فحلا‏:‏

وهو إذا جرجر عند الهب *** جرجر في حنجرة كالحب

‏(‏وهامة كالمرجل المنكب‏)‏‏.‏

1715- مالك عن أيوب بن حبيب مولى سعد بن أبي وقاص عن أبي المثنى الجهني أنه قال كنت عند مروان بن الحكم فدخل عليه أبو سعيد الخدري فقال له مروان بن الحكم أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النفخ في الشراب فقال له أبو سعيد نعم فقال له رجل يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبن القدح عن فيك ثم تنفس قال فإني أرى القذاة فيه قال فأهرقها قال أبو عمر هكذا يقول مالك في شيخه هذا أيوب بن حبيب الجمحي من أنفسهم قال مصعب الزبيري هو أيوب بن حبيب بن أيوب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور واسم الأعور خلف بن عمرو بن وهب بن حذافة بن جمح قتل بقديد قال أبو عمر روي عن أيوب بن حبيب مالك وفليح بن سليمان وعباد بن إسحاق وهو عندهم ثقة‏.‏

وأما أبو المثنى الجهني فلا يوقف له على اسم وهو عندهم ثقة من تابعي أهل المدينة روى عنه أيوب بن حبيب ومحمد بن أبي يحيى الأسلمي وفي هذا الحديث الرخصة في الشرب بنفس واحد وكذلك قال مالك رحمة الله روى عيسى بن دينار عن بن القاسم عن مالك أنه رأى في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال له إني لا أروى من نفس واحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فأبن القدح عن فيك قال مالك فكأني أرى في ذلك رخصة أن يشرب من نفس واحد قال مالك ولا أرى بأسا بالشرب من نفس واحد وأرى فيه رخصة لموضع الحديث إني لا أروى من نفس واحد قال أبو عمر يريد مالك - رحمه الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم ينه الرجل الذي قال له إني لا أروى من نفس واحد أن يشرب في نفس واحد بل قال له كلاما معناه فإن كنت لا تروى من نفس واحد فأبن القدح عن فيك وهذا إباحة منه للشرب من نفس واحد أو كالإباحة وقد رويت عن السلف آثار منها كراهة الشرب في نفس واحد منهم بن عباس وطاوس وعكرمة وقالوا الشرب من نفس واحد شرب الشيطان وقد ذكرنا الآثار عنهم بذلك في التمهيد وروى عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز أنهم قالوا لا بأس بالشرب في نفس واحد وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك وقال ميمون بن مهران رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب فجعلت أقطع شرابي وأتنفس فقال إنما نهي أن يتنفس في الإناء فإذا لم تتنفس في الإناء فاشربه إن شئت بنفس واحد قال أبو عمر قول عمر بن عبد العزيز هذا هو تفسير هذا الباب وتهذيب معناه وروى عقيل عن بن شهاب قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الطعام والشراب ولم أر أحدا أشد في ذلك من عمر بن عبد العزيز وكذلك رواه يونس عن بن شهاب سواء‏.‏

وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثني محمد بن سابق قال حدثني شيبان‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن الجهم قال حدثني عبد الوهاب قال أخبرنا هشام بن أبي عبد الله الدستوائي جميعا عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء حدثني خلف بن قاسم قال حدثني أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الأسواني قال حدثني أحمد بن محمد بن سلام قال حدثني مجاهد بن موسى قال حدثني سفيان بن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن بن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه حدثني أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني محمد بن فطيس قال حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثني أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن الدوسي عن عمه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عنه ثم يتنفس وقد ذكرنا وجوها محتملة لمعنى كراهية التنفس في الإناء في التمهيد‏.‏

باب ما جاء في شرب الرجل وهو قائم

1716- مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان كانوا يشربون قياما‏.‏

1717- مالك عن بن شهاب أن عائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسا‏.‏

1718- مالك عن أبي جعفر القارئ أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يشرب قائما‏.‏

1719- مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان يشرب قائما قال أبو عمر إنما رسم مالك هذا الباب وذكر فيه عن عمر وعلي وعثمان وسعد وعائشة وبن عمر وبن الزبير أنهم كانوا يشربون قياما لما سمع فيه من الكراهية والله أعلم ولم يصح عنده الحظر وصحت عنده الاباحة فذكرها في باب أفرد لها من كتابه هذا وهي الأكثر عند العلماء وعليها جماعة الفقهاء ومن الكراهة في ذلك ما ذكره وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس بن مالك قال نهى رسول لله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما وهذا الحديث رواه معمر عن قتادة عن أنس بن مالك قوله قال سألت أنسا عن الشرب قائما فكرهه وروى وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد الخدري قال زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا شرب قائما وكرهه الحسن البصري ذكره أبو بكر عن هشيم عن منصور عن الحسن وقد روي عنه خلاف ذلك ذكره أبو بكر قال حدثني أبو الأحوص عن عبد الله بن شريك عن بشر بن غالب قال رأيت الحسن يشرب وهو قائم وعن وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال إنما أكره الشرب قائما لداء يأخذ في البطن‏.‏

وأما الإباحة في الشرب قائما والرخصة في ذلك فمن ذلك حديث الشعبي عن بن عباس قال ناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة من زمزم فشربها وهو قائم حدثناه سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر قال حدثني بن عيينة وحفص عن عاصم الأحوال عن الشعبي عن بن عباس فذكره‏.‏

وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان قال حدثني عاصم الأحول عن الشعبي عن بن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدلو من زمزم فنزع له فشربه وهو قائم حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح‏.‏

وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني إبراهيم بن إسحاق النيسابري قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال كنا نشرب ونحن قيام ونأكل ونحن نمشي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه أبو اليزيد بن عطاء عن بن عمر مثله سواء ومنها حديث علي بن أبي طالب حدثنا عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثني محمد بن بشار قال حدثني يحيى بن سعيد عن مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال أتي علي بماء فشرب قائما وقال إن ناسا يكرهون هذا وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائما من حديث أم سليم وحديث كبشة جدة عبد الرحمن بن أبي عمرة وروي عن بن عمر من وجوه أنه كان يشرب قائما وروي عن أبي هريرة الوجهان جميعا الكراهة والإباحة وكان طاوس ومجاهد وسعيد بن جبير يشربون قياما قال أبو عمر الأصل الإباحة حتى يرد النهي من وجه لا معارض له فإذا تعارضت الآثار سقطت والأصل ثابت في الإباحة حتى يصح الأمر أو النهي بما لا مدفع فيه - وبالله التوفيق‏.‏

باب السنة في الشرب ومناولته عن اليمين

1720- مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء من البئر وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر الصديق فشرب فثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن قال أبو عمر لم يختلف على مالك ولا على بن شهاب في هذا الحديث أن عن يمينه الأعرابي وعن يساره أبا بكر وبعضهم يقول فيه عن بن شهاب وعن يمينه رجل من أهل البادية وأهل البادية هم الأعراب وزاد بعض الرواة رواة بن شهاب فيه أن عمر كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم نأول أبا بكر يا رسول الله فلم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الأيمن فالأيمن وممن قال ذلك بن عيينة أخبرنا محمد بن عبد الملك قال أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد قال حدثني الحسن بن محمد بن الصباح‏.‏

وحدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قالا أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري سمعه من أنس بن مالك قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا بن عشر سنين وتوفي وأنا بن عشرين سنة وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته ودخل علينا في دارنا فحلبنا له من شاة داجن لنا وشيب له من بئر في الدار وأبو بكر عن شماله وأعرابي عن يمينه وكان عمر ناحية فقال عمر يا رسول الله أعط أبا بكر فأعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن قال أبو عمر روى هذا الحديث محمد بن الوليد البسري عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري عن أنس فذكر فيه ألفاظ بن عيينة كلها من أولها إلى آخرها وقال في آخره الأيمن فالأيمن فمضت سنة فزاد على بن عيينة أيضا ولم يروه أحد عن مالك كذلك إلا ما ذكره البسري عن بن مهدي عنه ومحمد بن الوليد معروف بحمل العلم صدوق ولا أعلم أحدا طعن عليه في نقله ولعله قد حفظ عن بن مهدي ما قاله مالك فإن مالكا ربما اختصر الحديث وربما جاء به بتمامه‏.‏

1721- مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام اتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال الغلام لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا قال فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده قال أبو عمر هكذا روى هذا الحديث كل من رواه عن أبي حازم كما رواه مالك وأخطأ فيه عبد العزيز بن أبي حازم قال وعن يساره أبو بكر فغلط وإنما ذلك في حديث بن شهاب عن أنس وهما حديثان في قصتين متغايرتين وفي مكانين وفي وقتين حدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني حفص بن حمزة قال حدثني إسماعيل بن جعفر قال أخبرني أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن وغلام عن يمينه والأشياخ أمامه وعن يساره فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للغلام يا غلام أتأذن أن أسقي الأشياخ قال ما أحب أن أوثر بفضل شربتك على نفسي أحدا من الناس فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الأشياخ قال أبو عمر الغلام المذكور في هذا الحديث بن عباس والأشياخ أحدهم خالد بن الوليد وهذا ما لا خلاف فيه وقد نقل من طرق منها ما حدثناه سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان قال حدثني علي بن زيد بن جدعان عن عمرو بن حرملة عن بن عباس قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالتي ميمونة ومعنا خالد بن الوليد فقالت ميمونة ألا نقدم إليك يا رسول الله شيئا أهدته لنا أم عفيف قال بلى فأتته بضباب مشوية فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث مرات ولم يأكل منها وأمرنا أن نأكل منها ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه لبن فشرب وأنا عن يمينه وخالد عن يساره فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرب لك يا غلام وإن شئت آثرت بها خالدا فقلت ما كنت لأوثر بسؤر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا به ما هو خير منه ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإني لا أعلم شيئا يجزئ من الطعام والشراب غيره ورواه إسماعيل بن علية عن عبد الله بن زيد بإسناده إلا أنه قال فيه عمرو بن حرملة أو قال بن أبي حرملة عن بن عباس قال دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة فجاءتنا بإناء فيه لبن فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عن يمينه وخالد عن شماله فقال لي الشربة لك وإن شئت أثرت بها خالدا فقلت ما كنت لأوثر بسؤرك أحدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس شيء يجزئ مكان الطعام والشراب غير اللبن هكذا رواه بن علية ولم يذكر في قصة الضباب ذكر أبو عيسى الترمذي قال حدثني أحمد بن منيع قال حدثني إسماعيل بن علية ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن عمرو بن حرملة عن بن عباس مثله قال أبو داود كذلك قال لي شعبة وغيره بقول عمرو بن حرملة قال أبو عمر بن عيينة جوده وأقامه وأني به بتمامه والصواب في اسم الرجل عمر بن حرملة لا عمرو ولا بن أبي عمر ولا بن حرمل وقد ذكرنا ما في هذا الحديث من معاني الآداب والسنن في التمهيد والحمد لله‏.‏

باب جامع ما جاء في الطعام والشراب

1722- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول قال أبو طلحة لأم سليم لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخذت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي وردتني ببعضه ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آرسلك أبو طلحة فقلت نعم قال للطعام فقلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه قوموا قال فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم فقالت الله ورسوله أعلم قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه حتى دخلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلمي يا أم سليم ما عندك فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت عليه أم سليم عكة لها فآدمته ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ثم قال ائذن لعشرة بالدخول فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة بالدخول فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا قال أبو عمر وفي حديث قبول مواساة الصديق وقبول صدقته وهديته وأكل طعامه وفيه دليل على أن الصلة والهدية ليست بصدقة ولو كانت صدقة ما أكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة وقال إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا آل محمد وفيه أن خبز الشعير عندهم من رفيع الطعام الذي يتهادى ويدعى له الجلة الفضلاء وكان في أول الإسلام أكثر طعامهم التمر وفيه أن الأنبياء تزوى عنهم الدنيا حتى ليدركون القوت ويبلغ بهم الجهد إلى شدة الجوع حتى يضعف منهم الصوت من غير صيام كما وصف في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أن الرجل إذا دعي إلى طعام جاز له أن يدعو جلساءه وجاز لهم الإقبال معه إليه وإن لم ينذرهم صاحب الطعام وذلك إذا علم الداعي لهم أن الطعام يحملهم وأن ذلك يسر صاحب الطعام ويرضاه وإلا فلا وقد قال مالك لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى طعام أن يحمل معه غيره لأنه لا يدري هل يسر بذلك صاحب الطعام أم لا إلا أن يقول له صاحب الطعام ادع من لقيت فإن قال له ذلك كان له أن يحمل معه غيره وفيه أن من أخلاق المؤمن الأكتراث إذا نزل به ضيف وليس معه ما يكرمه به لأن الضيافة من أخلاق الكرام وفيه من فضل فطنة أم سليم بحسن جوابها زوجها حين شكا إليها كثرة من حل به من الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلة طعامه فقالت له الله ورسوله أعلم أي أنه لم يأت بهم إلا وسيطعمهم وفيه الخروج إلى الطريق لمن قصد إكراما له إذا كان أهلا لذلك لأنه من البر والكرامة وفيه أن صاحب الدار لا يستأذن في داره وأن من دخل معه استغنى عن الإذن وفيه أنه لا حرج على الصديق أن يأمر في دار صديقه بما شاء مما يعلم أنه يسر به ولا يسؤه ذلك ألا ترى أنه اشترط عليهم أن يفتوا الخبز وقال لأم سليم هات ما عندك ولقد أحسن القائل في هذا المعنى مفتخرا بذلك‏:‏

يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا *** فليس يعرف خلق أينا الضيف

وفيه دليل أيضا على أن الثريد أعظم بركة من غيره ولذلك اشترط به رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم وفيه أن الإنسان لا يدخل عليه بيته إلا معه أو بإذنه ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن لعشرة ثم ائذن لعشرة ثم ائذن لعشرة حتى استوفى جميعهم عشرة عشرة وكانوا سبعين أو ثمانين رجلا وفيه العلم الواضح من أعلام النبوة والبرهان الساطع من براهينها أن يكون العدد الكبير يأكلون حتى يشبعوا من الطعام اليسير وكم له من مثلها صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرنا منه كثيرا في مواضع من كتابنا كتاب التمهيد والحمد لله كثيرا‏.‏

1723- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة وهذا الحديث يدل على أن الكفاية ليست بالشبع والاستبطان كما أنها ليست بالغنى قال أبو حازم - رحمه الله إذا كان ما يكفيك لا يغنيك فليس شيء يغنيك وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن القوم كانوا لا يشبعون كل الشبع وكانوا لا يقدمون الطعام إلى أنفسهم حتى يشتهوه فإذا قدموا أخذوا منه حاجتهم ورفعوه وفي أنفسهم بقية من شهوته وهذا عند أهل الطب والحكمة أفضل ما يستدام به صحة الأجسام وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما ملأ بن آدم وعاء شرا من بطن حسب بن آدم أكلات يقمن صلبه ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه‏.‏

1724- مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أغلقوا الباب وأوكوا السقاء وأكفئوا الإناء أو خمروا الإناء وأطفئوا المصباح فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بينهم قال أبو عمر هكذا قال يحيى تضرم على الناس بينهم وتابعه بن وهب وبن القاسم وقال بن بكير بيوتهم وقال القعنبي بينهم أو بيوتهم وفي هذا الحديث الأمر بغلق الأبواب من البيوت في الليل وتلك سنة مأمور بها رفقا بالناس لشياطين الإنس والجن‏.‏

وأما قوله إن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وكاء فذلك إعلام منه وإخبار عن نعم الله - عز وجل - على عبادة من الإنس إذ لم يعط قوة على قوة فتح باب ولا حل وكاء ولا كشف إناء وأنه قد حرم هذه الأشياء وإن كان قد أعطي ما هو أكثر منها من التخلل والولوج حيث لا يلج الإنس وقوله أوكوا السقاء معناه أيضا قريب مما وصفنا في غلق الباب والسقاء القربة وقد تكون القلة والخابية وما كان مثلهما في ذلك المعنى وقوله أكفؤوا الإناء معناه اقلبوه على فيه أو خمروه - شك المحدث والمعنى في ذلك أن الشياطين تجول بالبيوت والدور بالليل وفيهم مردة تؤذي بدروب من الأذى وذلك معروف في أفعالهم في كتاب العلماء ومعلوم بالمشاهدات في أزمنة شتى وهم لنا أعداء وحسبك بفعل العدو قال الله تعالى ‏(‏أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو‏)‏ ‏[‏الكهف 50‏]‏‏.‏

والكلمة من قوله أكفئوا الإناء ثلاثية مهموزة يقال كفأت الإناء أكفؤه فهو مكفوء إذا قلبته قال بن هرمة‏:‏

عندي لهذا الزمان آنية *** أملأها مرة وأكفؤها

وقوله أطفئوا المصباح مهموز أيضا قال الله تعالى ‏(‏كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله‏)‏ ‏[‏المائدة 64‏]‏‏.‏

وقال بن هرمة‏:‏

برزت في غايتي وشايعني *** موقد نار الوغى ومطفئها

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطفاء المصباح رفقا بأمته وحياطة عليهم وأدبا لهم وقال صلى الله عليه وسلم لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون رواه الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه من طرق في التمهيد وقوله الفويسقة يعني الفأرة سماها بذلك لأذاها الناس وكل من يؤذي المسلمين ما اكتسبوا فهو فاسق خارج عن طاعة الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم فذكر منهن الفأرة وقوله تضرم على الناس أي تشعل النار على الناس قال بن وهب وغيره ربما جعلت الفتيلة موقودة حتى تجعلها في السقف فتحرق البيت وقد ذكرت في التمهيد حديث أبي سعيد الخدري أنه قيل له لم قيل للفأرة الفويسقة قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وقد أخذت فتيلة لتحرق بها البيت وحديث بن عباس قال جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فأتت بها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع درهم فقال إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل هذه على هذا فتحرقكم ومن حديث عطاء بن يسار عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم نباح الكلاب أو نهاق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنهن يرون ما لا ترون وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل فإن الله تعالى يبث من خلقه في ليله ما شاء وأجيفوا الأبواب واذكروا اسم الله عليها فإن الشيطان لا يفتح بابا أجيف وذكر اسم الله عليه وغطوا الجرار وأكفئوا الآنية وأوكوا القرب قال أبو عمر قد أتي في هذا الحديث شرط التسمية في الباب إذا أجيف وجاء في غيره أيضا مثله في تغطية الإناء أو قلبه إن الشيطان لا يعترضه إذا سمى الله تعالى عليه عند ذلك الفعل به وهذه زيادة على ما جاء في حديث أبي الزبير عن جابر وقد ذكرنا حديث عطاء بن يسار عن جابر بذلك بإسناده في التمهيد وذكرنا هناك أيضا حديث القعقاع بن حكيم عن جابر بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل بها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء قال الليث بن سعد وهو أحد رواة هذا الحديث والإعاجم يتقون ذلك في كانون الأول وفي حديث عطاء بن أبي رباح عن جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم خمروا الآنية وأوكوا الأسقية وأجيفوا الأبواب وكفوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارا وخطفة وقد ذكرنا هذا الخبر وما كان مثله بإسناده في التمهيد وذكرنا هناك أيضا خبر اختطاف الجن للذي ضرب عمر بن الخطاب الأجل لامرأته حين فقدته وقد روى بن وهب عن حيوة بن شريح وبن لهيعة عن عقيل عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جنح الليل فاحبسوا أولادكم فإن الله يبث من خلقه بالليل ما لا يبث بالنهار قال عقيل يتقى على المرأة أن تتوضأ عند ذلك قال بن شهاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا سمعتم النداء وأحدكم على فراشه أو أين ما كان فاهدءوا ساعة فإن الشياطين إذا سمعت النداء اجتمعوا وعشوا حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن عبد السلام قال حدثني محمد بن بشار قال حدثني يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله قال أبو عمر روينا عن بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال بسم الله فقد ذكر الله ومن قال الحمد لله فقد شكر الله ومن قال الله أكبر فقد عظم الله ومن قال لا إله إلا الله فقد وحد الله ومن قال لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم فقد سلم واستسلم وكان له بها كنز في الجنة‏.‏

1725- مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وضيافته ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه قال أبو عمر قد أتينا في التمهيد بما فيه شفاء من الآثار المرفوعة وأقوال السلف - رحمهم الله - في فضل الصمت وأنه منجاة لقوله صلى الله عليه وسلم من صمت نجا إلا أن الكلام بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإدمان الذكر وتلاوة القرآن أفضل من الصمت لأن الكلام بذلك غنيمة والصمت سلامة والغنيمة فوق السلامة وذكرنا هناك ما للعلماء في معنى قول الله تعالى ‏(‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏)‏ ق 18‏.‏

وأما الذي يكتب على المؤمن من كلامه فمن أحسن ما قيل في ذلك ما رواه النضر بن عباس عن هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس قال يكتب عن الإنسان كل ما يتكلم به من خير أو شر وما سوى ذلك فلا يكتب وقال أبو حاتم الرازي حدثني الأنصاري قال حدثني هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس قوله تعالى ‏(‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏)‏ ‏[‏ق 18‏]‏‏.‏ قال لا يكتب إلا الخير والشر‏.‏

وأما قوله يا غلام اسق الماء واسرج الفرس فلا يكتب‏.‏ وأما قوله من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره فإن الله تعالى قد أوصى بالجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وقد ذكرنا في التمهيد من حديث سعيد بن أبي سعيد أيضا عن أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والله لا يؤمن جار حتى يأمن جاره بوائقه وذكر مالك عن أبي حازم بن دينار أنه قال كان أهل الجاهلية أبر بالجار منكم وهذا قائلهم يقول‏:‏

ناري ونار الجار واحدة *** وإليه قبلي ينزل القدر

ما ضر جار ألا أجاوره *** ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر

وأما قوله من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فالمعنى أن المؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ينبغي أن تكون هذه أخلاقه قول الخير أو الصمت وبر الجار وإكرام الضيف فهذه حلية المؤمن وشيمته وخلقه وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وروى بن وهب والوليد بن مسلم وقتيبة بن سعيد عن بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في من لا يضيف قال أبو عمر أجمع العلماء على مدح مكرم الضيف والثناء عليه بذلك وحمده وأن الضيافة من سنن المرسلين وأن إبراهيم أول من ضيف الضيف صلى الله عليه وسلم واختلفوا في وجوب الضيافة فكان الليث بن سعد يوجبها قال بن وهب وسمعت الليث يقول الضيافة حق واجب قال أبو عمر يحتمل أن يكون الليث أراد أن الضيافة واجبة في أخلاق الكرام ولكن قد حكى بن وهب وغيره عنه إيجابها ليلة واحد فأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده وقال به القوم واحتجوا بحديث شعبة عن منصور عن الشعبي عن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم فإن أصبح بفنائه فإنه دين له إن شاء قضاه وإن شاء تركه واحتجوا بأحاديث مرفوعة في مثل هذا المعنى قد ذكرتها في التمهيد وحديث الليث في ذلك هو حجة لما ذهب إليه حدثني محمد بن خليفة قال حدثني محمد بن الحسن قال حدثني موسى بن هارون قال حدثني قتيبة بن سعيد قال حدثني الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فنمر بقوم ولا يقرونا فماذا ترى فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي قال أبو عمر وهذا يحتمل أن يكون في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة ثم أتى الله تعالى بالخير والسعة فصارت الضيافة جائزة وكرما مندوبا إليها محمودا فاعلها عليها‏.‏

وقال مالك ليس على أهل الحضر ضيافة وقال سحنون إنما الضيافة على أهل البادية‏.‏ وأما أهل الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر قال أبو عمر روى إبراهيم بن عبد الله بن همام بن أخي عبد الرزاق عن عمه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر وهذا عندهم حديث موضوع وضعه بن أخي عبد الرزاق -والله أعلم- وهو متروك الحديث‏.‏

وحدثناه عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثني الحسن بن إسماعيل قال حدثني بكر بن العلاء القسري القاضي قال حدثني أبو مسلم الكجي قال حدثني إبراهيم بن عبد الله بن أخي عبد الرزاق فذكره كما ذكرنا سواء‏.‏

وقال مالك ليس للعبد المأذون له أن يضيف أحدا ولا يهب ولا يعير ولا يدعو أحدا إلى طعام إلا بإذن سيده وهو قول الشافعي والحسن بن حي في العبد المأذون له‏.‏

وقال الشافعي الضيافة على أهل البادية والحاضرة والضيافة حق واجب في مكارم الأخلاق قال أبو عمر حديث مالك في هذا الباب عن سعيد عن أبي شريح الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم دال على أن الضيافة ليست بواحبة فرضا لأن الجائزة في لسان العرب العطية والمنحة والصلة وذلك لا يكون إلا على اختيار لا عن وجوب وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه مع إجماعهم على أن إكرام الجار وصلته وعطيته ليست بفرض دليل على أن الضيافة أيضا ليست بفرض وروى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر بن الخطاب سمعه يقول إن إكرام الضيف يوم وليلة وضيافته ثلاثة أيام فإن أصابه بعد ذلك مرض أو مطر فهو دين عليه وكان عبد الله بن عمر يقبل الضيافة ثلاثا ثم يقول لنافع أنفق فإنا لا نأكل الصدقة ويقول احبسوا عنا صدقتكم وسئل الأوزاعي عن من أطعم ضيفه خبز الشعير وعنده خبز البر أو أطعمه الخبز بالزيت وعنده اللحم فقال هذا ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر قال أبو عمر قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه أي لا يقيم على ضيافته أكثر من ثلاث والثواء الإقامة قال كثير‏:‏

أريد الثواء عندها وأظنها *** إذا ما أطلنا عندها المكث ملت

وقال الحارث بن حلزة‏:‏

أأذنتنا ببينها أسماء *** رب ثاو يمل منه الثواء

وقوله حتى يحرجهم أي حتى يضيق عليهم ويضيق نفسه والحرج الضيق في لغة القرآن‏.‏

1726- مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق إذ أشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب وخرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له فقالوا يا رسول الله ‏!‏ وإن لنا في البهائم لأجرا فقال في كل ذات كبد رطبة أجر قال أبو عمر النص في هذا الحديث أن في الإحسان إلى البهائم المملوكات وغير المملوكات أجرا عظيما يكفر الله به السيئات والدليل أن في الإساءة إليها وزرا بقدر ذلك لأن الإحسان إليها إذا كان فيه الأجر ففي الإساءة إليها - لا محالة - الوزر وهذا الحديث عندي يعارض ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في قتل الكلاب وسيأتي القول في ذلك من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وقد روى موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أخيه عن أبيه سراقة بن جعشم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا رسول الله ‏!‏ أرأيت الضالة ترد على حوض إبلي هل لي فيها من أجر إن سقيتها قال نعم في الكبد الحرى أجر‏.‏

1727- مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة قال وأنا فيهم قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر قال فكان يقوتناه كل يوم قليلا قليلا حتى فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة فقلت وما تغني تمرة فقال لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما ولم تصبهما قال مالك الظرب الجبيل قال أبو عمر قال صاحب العين الظرب بكسر الظاء والجمع الظراب وهو ما كان من الحجارة أصله ثابت في جبل أو أرض خزنة وكان طرفه الثاني محددا فإن كان خلفه الجبل كذلك سمي ظربا والجمع ظراب قال أبو عمر روى هذا الحديث عن جابر جماعة من ثقات التابعين ومعانيهم متقاربة فإذا كان بعضهم يزيد على بعض فيه معنى ليس عند غيرهم منهم عمرو بن دينار وأبو الزبير وعبيد الله بن مقسم وطلحة بن نافع وأبو سفيان وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد ورواه بن جريج مختصرا مستوعبا قال حدثني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الأنصاري يقول غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح فجعنا جوعا شديدا فألقى لنا البحر حوتا لم نر مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر وأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فكان يمر الراكب تحته قال أبو عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا والعساكر إلى أرض العدو وتلك سنة مسنونة مجتمع عليها لا تحتاج إلى استدلال ولا استنباط من أخبار الآحاد في هذا الحديث ما يدل على أن المسلمين إذا نزلت بهم ضرورة يخاف منها تلف النفوس ويرجى بالمواساة بقاؤها حينا انتظار الفرج فواجب حينئذ المواساة وأن يشارك المرء رفيقه وجاره فيما بيده من القوت إلا ترى إلى حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فقال اجمعوا أزوادكم قال فجعل الرجل يجيء بالحفنة من التمر والحفنة من السويق وطرحوا الأنطعة والأكسية فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده ثم قال كلوا فأكلنا وشبعنا وأخذنا في مزاودنا فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله من قالها غير شاك دخل الجنة وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وقال بعض العلماء جمع الأوزاد في السفر سنة وأن يخرج القوم إذا خرجوا في سفر بنفقتهم جميعا فإن ذلك أطيب لنفوسهم وأحسن لأخلاقهم وأحرى أن يبارك لهم قال أبو عمر فجمع أبي عبيدة لأزواد الجيش الذي كان أميرا عليه مأخوذ من السنة المذكورة في حديث أبي هريرة وغيره وقد استدل بعض الفقهاء بحديث أبي هريرة هذا وفعل أبي عبيدة في الأمر بإخراج الأزواد وجمعها والمواساة على التساوي فيها فإنه جائز للإمام عند قلة الطعام وإرتفاع السعر وعدم القوت أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته بإخراجه للبيع ورأى أن إجباره على ذلك من الواجب لما فيه من توفيق الناس وصلاح حالهم وإحيائهم والإبقاء عليهم وقد كان عمر بن الخطاب - رحمه الله - يجعل مع كل أهل بيت مثل عددهم عام الرمادة ويقول لن يهلك امرؤ عن نصف قوته وهذا كله في معنى الأزواد الذي أتت السنة به لما فيه من مصلحة العامة وإدخال الرفق عليهم وقد قال مالك لا يجوز احتكار الطعام في سواحل المسلمين لأن ذلك يضر بهم ويزيد في غلاء سعرهم ومن أضر بالناس حيل بينه وبين ذلك وقال أيضا لا يخرج الطعام من سوق بلد إلى غيره إذا كان ذلك يضر بأهله فإن لم يضر بهم فلا بأس أن يشتريه كل من احتاج إليه وهذا كله من قوله خلاف قوله لا يجبر الناس على إخراج الطعام في الغلاء ولا يجوز التسعير على أهل الأسواق وذلك ظلم ولكن من انحط من السعر قيل له ألحق وإلا فاخرج وقد أوضحنا هذه المعاني في كتاب البيوع وفي هذا الحديث جواز أكل دواب البحر ميتة وغير ميتة بخلاف قول الكوفيين أنه لا يجوز أكل شيء من دواب البحر إلا السمك ما لم يكن طافيا فإن كان السمك طافيا لم يؤكل أيضا وهذه المسألة قد أوضحناها في كتاب الطهارة عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتتة وفي كتاب الصيد أيضا فلا معنى لإعادتها وقد احتج بهذا الحديث من أجاز أكل لحم الصيد إذا أنتن وكذلك كل ما ذكي لأنه معلوم أن الحوت والميتة كلها إذا بقيت أياما أنتنت وقد أكل أبو عبيدة وأصحابه من ذلك الحوت ثماني عشرة ليلة فلا شك أنهم كانوا يأكلونه بعد أن أصل وأنتن والذكي لا يضره نتنه من جهة الحرام وأنه كره لرائحته وقال جماعة من أهل العلم لا يؤكل إذا أنتن لأنه حينئذ من الخبائث ورجس من الأرجاس وإن كان مذكي واحتجوا بحديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حدثناه سعيد بن سيد قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني محمد بن عبد الملك بن أيمن‏.‏

وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني موسى بن معاوية قال حدثني معن بن عيسى عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا الصيد وإن وجدتموه بعد ثلاث ما لم ينتن وذكروا أن جيش أبي عبيدة كانوا جياعا مضطرين تحل لهم الميتة فلذلك أكلوا ذلك الحوت وقد أتينا بما عورضوا به في كتاب الطهارة وأتينا بما للعلماء في أكل الصيد إذا بات عن صائده أو غاب عنه مصرعه في كتاب الصيد والحمد لله كثيرا‏.‏

1728- مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن سعد بن معاذ عن جدته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا قال أبو عمر يا نساء ها هنا رفع لا يجوز غير ذلك والمؤمنات أيضا رفع والمعنى فيه يا أيتها النساء المؤمنات وقد يجوز عند أهل العربية في المؤمنات النصب‏.‏

وأما إضافة النساء إلى المؤمنات فلا يجوز قال أبو عمر الذين أجازوا يا نساء المؤمنات من باب إضافة الشيء إلى نفسه مثل قولك المسجد الجامع وحسن الوجه وقولهم أقوى من قول من وبالله التوفيق وفي هذا الحديث الحض على فعل قليل الخير وكثيره قال الله عز وجل ‏(‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ‏[‏الزلزلة 7‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي تميمة الهجيمي لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تضع من دلوك في إناء المستقي ولقد أحسن القائل‏:‏

افعل الخير ما استطعت وإن *** كان قليلا فلن تطيق بكله

ومتى تفعل القليل من الخير *** إذا كنت تاركا لأقله

وقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بحبتي عنب وقالت كم فيها من مثقال ذرة وفي هذا الحديث الحض على بر الجار وصلته ورفده والآثار في حسن الجوار كثيرة جدا وقد أوضحنا معاني هذا الباب في التمهيد‏.‏

1729- مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل الله اليهود نهوا عن أكل الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه قال أبو عمر هذا الحديث مسند من حديث عمر بن الخطاب وحديث بن عباس وحديث أبي هريرة وحديث جابر وقد ذكرتها في التمهيد وقيل إن بن عباس إنما يرويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان قال حدثني عمرو بن دينار قال أخبرني طاوس أنه سمع بن عباس يقول بلغ عمر بن الخطاب أن سمرة باع خمرا فقال قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها قال أبو عمر قوله فجملوها أي أذابوها وقد جاء هذا مفسرا في حديث أبي هريرة مذكورا في التمهيد‏.‏

وأما رواية من روى سماع بن عباس لهذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني مسدد بن مسرهد أن بشر بن المفضل وخالد بن عبد الله حدثاه المعنى عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن بن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا عند الركن قال فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال لعن الله اليهود - ثلاثا - إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها إن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ولم يقل عن خالد بن عبد الله رأيت وقال قاتل قال أبو عمر معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه يريد ثمن ما يباع منه للأكل وما لا منفعة فيه للأكل‏.‏

وأما الحمر الأهلية وما كان مثلها مما لا يجوز أكله ويجوز الانتفاع به فجائز بيعه لغير الأكل وأكل ثمنه وسيأتي القول في الزيت تقع فيه الميتة وما للعلماء في ذلك من المذاهب في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

1730- مالك أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البري وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره قال أبو عمر الماء القراح هو الصافي الذي لا يشوبه شيء لم يمزج بعسل ولا زيت ولا تمر ولا غير ذلك مما تصنع منه الأشربة قال أبو عمر ما جاء من الآثار في أن قول العبد على طعامه الحمد لله شكر تلك النعمة يعارض خبر عيسى هذا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه قال أفضل الشكر الحمد لله وكان عيسى عليه السلام أشد الأنبياء زهدا في الدنيا وإن كانوا كلهم زهادا فيها وما بعث نبي قط إلا بالزهد في الدنيا والنهي عن الرغبة فيها حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن يونس قال حدثني بقي بن مخلد قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني شريك عن عاصم والأعمش عن أبي صالح رفعه إلى النبي عليه السلام قال لأصحابه اتخذوا المساجد مساكن واتخذوا البيوت منازل وانجوا من الدنيا بسلام وكلوا من بقل البرية وزاد الأعمش فيه واشربوا من الماء القراح قال‏.‏

وحدثني جرير عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال كان عيسى ‏(‏عليه السلام‏)‏ لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء وكان يقول إن مع كل يوم رزقه وكان يلبس الشعر ويأكل الشجر وينام حيث أمسى وروينا أن عيسى ‏(‏عليه السلام‏)‏ قال له الحواريون يا عيسى بن مريم ما تأكل قال خبز الشعير قالوا وما تلبس قال الصوف قالوا وما تفترش قال الأرض قالوا كل هذا شديد قال لن تنالوا ملكوت السماوات والأرض حتى تصيبوا هذا على لذة أو قال على شهوة وروى أبو معاوية عن هشام بن حسان عن الحسن قال جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصفة فقال كيف أصبحتم قالوا بخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم خير أم إذا غدا على أحدكم بجفنه وريح عليه بأخرى وستر أحدكم بيته كما تستر الكعبة قالوا يا رسول الله نصيب ذلك ونحن على ديننا قال نعم قالوا فنحن يومئذ خير نتصدق ونعتق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم اليوم خير إنكم إذا أصبتم ذلك تحاسدتم وتباغضتم وتقاطعتم قال أبو عمر من الدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصد أصحابه ويردعهم على خواطر حب الدنيا وما يعرض في القلوب من تمنيها ويزهدهم فيها ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سألته ابنته فاطمة - رضي الله عنها - خادما يخدمها مما أفاء الله عليه تصونها عن الطحين ومؤنة البيت فقال لها ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تسبحين الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدينه ثلاثا وثلاثين وتهللينه أربعا وثلاثين ومثل ذلك حديث عقبة بن عامر قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال إيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم فقلنا يا رسول الله كلنا نحب ذلك فقال أفلا أدلكم على ما هو خير من ذلك يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آية من كتاب الله خير له من ناقة وآيتين خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه والله ما الفقر أخشي عليكم ولكني أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا فتتنافسون فيها كما تنافس من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم والآثار في هذا المعنى كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم جدا ومن فهم ووفق فالقليل يكفيه‏.‏

1731- مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب فسألهما فقالا أخرجنا الجوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري فأمر لهم بشعير عنده يعمل وقام يذبح لهم شاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نكب عن ذات الدر فذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة ثم أتوا بذلك الطعام فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسألن عن نعيم هذا اليوم قال أبو عمر قد روي هذا الحديث مسندا من طرق كثيرة عن أبي هريرة وقد ذكرناها في التمهيد وأتمها وأكملها ما حدثني أبو محمد قاسم بن محمد قراءة مني عليه قال حدثني خالد بن سعد قال حدثني محمد بن فطيس قال حدثني محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة قال حدثني يحيى بن أبي بكير قال حدثني شيبان بن عبد الرحمن عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد فأتاه أبو بكر فقال ما أخرجك يا أبا بكر فقال خرجت للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر في وجهه قال فلم يلبث أن جاء عمر فقال ما أخرجك يا عمر قال الجوع قال وأنا قد وجدت بعض الذي تجد انطلقوا بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان وكان كثير النخل والشاء ولم يكن له خدم فأتوه فلم يجدوه ووجدوا امرأته فقالوا أين صاحبك فقالت ذهب ليستعذب لنا الماء من قناة بني فلان ما لبث أن جاء بقربته يزغبها فوضعها فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يلتزمه ويفديه بأبيه وأمه فانطلق بهم إلى ظل وبسط لهم بساطا ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه بين أيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تنقيت لنا من رطبه فقال أردت أن تتخيروا من رطبه وبسره فأكلوا ثم شربوا من الماء فلما فرغوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي أنتم عنه هذا ظل بارد والرطب البارد عليه الماء البارد ثم انطلق يصنع لهم طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذبح ذات در قال فذبح لهم عناقا فأكلوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك من خادم قال لا قال فإذا أتانا شيء أو قال سبي - فأتنا قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسان ليس لهما ثالث فأتاه أبو الهيثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ أحدهما فقال يا رسول الله خر لي أنت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوص به معروفا فأتى به امرأته فحدثها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ما أنت ببالغ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حتى تعتقه قال هو عتيق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا ومن يوق بطانة الشر فقد وقي قال أبو عمر في حديث مالك وفي هذا الحديث ما كان القوم عليه في أول الإسلام من ضيق الحال وشظف العيش وما زال الأنبياء والصالحون يجوعون مرة ويشبعون أخرى وقد تكلمنا على ما في هذا الحديث من معاني الآداب وغيرها في التمهيد وقال عبد الله بن رواحة في هذه القصة يمدح أبا الهيثم بن التيهان‏:‏

فلم أر كالإسلام عزا لأهله *** ولا مثل أضياف الأراشي معشرا

نبي وصديق وفاروق أمة‏.‏‏.‏‏.‏ وخير بني حواء فرعا وعنصرا‏)‏ فوافق للميقات قدر قضية‏.‏‏.‏‏.‏ وكان قضاء الله قدرا مقدرا‏)‏‏:‏

إلى رجل نجد يباري بجوده *** شموس الضحى جودا ومجدا ومفخرا

وفارس خلق الله في كل غارة *** إذا لبس القوم الحديد المسمرا

ففدى وحيى ثم أدنى قراهم‏.‏‏.‏‏.‏ فلم يقرهم إلا سمينا معمرا‏)‏ وروينا عن مجاهد أنه قال في قول الله تعالى ‏(‏ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم‏)‏ ‏[‏التكاثر 8‏]‏‏.‏ قال كل شيء من لذة الدنيا‏.‏

1732- مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يأكل خبزا بسمن فدعا رجلا من أهل البادية فجعل يأكل ويتبع باللقمة وضر الصحفة فقال عمر كأنك مقفر فقال والله ما أكلت سمنا ولا رأيت أكلا به منذ كذا وكذا فقال عمر لا آكل السمن حتى يحيا الناس من أول ما يحيون قال أبو عمر وروي يحيى الناس من أول ما يحيون وهذا الحديث قد رواه غير مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان قال كان بين يدي عمر صحفة فيها خبز مفتوت بسمن فجاء رجل كالبدوي فقال كل فجعل يتبع وضر الدسم باللقمة في جنوب الصحفة فقال عمر كأنك مقفر ثم ذكره إلى آخره سواء قال أبو عمر في هذا الخبر تواضع عمر ومؤاكلته الضعفاء من أهل البادية وغيرهم وهذه القصة كانت -والله أعلم- عام الرمادة فإنها كانت شدة شديدة ومسغبة عامة وكان ذلك عامين أو ثلاثة منع أهل الحجاز فيها غيث السماء فساءت بهم الحال وقيل لها أعوام الرمادة لأن الأرض كانت قد اغبرت من شدة الجدب وكان الغبار يرتفع بين السماء والأرض كالرماد ومن قال عام الرمادة أشار إلى أشدها وروي عن ثابت عن أنس قال تقرقر بطن عمر وكان يأكل الزيت عام الرمادة وكان قد حرم على نفسه السمن قال فنقر بطنه بإصبعه وقال قرقر ما شئت أن تقرقر إنه ليس لك عندنا غير هذا حتى يحيا الناس رواه عبيد الله بن نمير عن عبد الله بن عمر عن ثابت عن أنس وروى حسين الجعفي عن زائدة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال إني لآكل مع عمر من خبز وزيت وهو يقول أما والله لتصبرن أيها البطن على الخبز والزيت ما دام السمن يباع بالأواقي‏.‏

وأما وضر الصحفة فهو ما يتعلق بها من ودك الطعام والمقفر هو كالمرمل والمرمل الذي لا زاد له ولا قوت معه وقوله حتى يحيا الناس فالرواية بضم الياء والمعنى قد يصيب الناس الحياء بالمطر ويعانوا ويخصبوا والحياء هو الخصب والغيث تقول العرب قد أحيا القوم إذا أصابهم الحياء بالمطر والخصب وصاروا من أهله وكان عمر - رضي الله عنه - يكره أن يأكل شيئا لا يدرك الناس مثله لئلا يستأثر عن رعيته ويؤثر نفسه عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استرعاه الله رعية فلم يحطهم بالنصيحة وحسن الرعاية لم يرح رائحة الجنة حدثني أحمد قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله قال حدثني بقي قال حدثني أبو بكر قال حدثني عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى قال كتب عمر إلى أبي موسى أما بعد فإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته وإن أشقى الرعاة عند الله من شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ عمالك ويكون مثلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرعت فيها تبتغي بذلك السمن وإنما حتفها في سمنها والسلام وقال عمر لو ماتت شاة ضائعة بالفرات لقلت إن الله - عز وجل - سائلي عنها‏.‏

1733- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفه قال أبو عمر هذا الخبر يدل على اقتصاره على أكل التمر دون غيره وعلى أنه كان جائعا وعلى أنه كان مخشوشنا في طعامه لا ينتقيه ولا يقول باللين منه والحشف رديء التمر المسوس اليابس وللعرب مثل تضربه في من باع شيئا رديئا وكال كيل سوء قالت أحشفا وسوء كيلة وروى أحمد بن حنبل قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال قالت حفصة بنت عمر لعمر يا أمير المؤمنين لو لبست ثوبا هو ألين من ثوبك وأكلت طعاما هو أطيب من طعامك فقد وسع الله عليك من الرزق وأكثر من الخير قال إني سأخاصمك إلى نفسك أما تذكرين ما كان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة العيش فما زال يذكرها حتى أبكاها وذكر أبا بكر ثم قال والله لئن استطعت لأشاركهما بمثل عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما الرخاء‏.‏

1734- مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال سئل عمر بن الخطاب عن الجراد فقال وددت أن عندي قفعة نأكل منه قال أبو عمر قالوا القفعة عندهم ظرف يعمل من الحلفاء وشبهها مستطيل كالذي يحمل عندنا فيه التراب والزبل على الدواب والقفة عندهم التي لها منها غطاء‏.‏

وأما عندنا فالقفه مدورة لا غطاء لها ونحن في غنى عن إعلام أهل بلدنا بها وفي هذا الخبر أكل عمر الجراد وهو أمر مجتمع على جواز أكله لمن شاء واختلف العلماء هل يحتاج إلى ذكاة أم لا فقال مالك لا يأكل حتى يذكى وذكاته عنده قتله كيف أمكن من الدوس أو قطع الرؤوس أو الطرح في النار ونحو ذلك مما يعالج به موته إذ لا حلق له ولا لبة فيذكى فيها بنحر أو ذبح‏.‏

وقال الشافعي والكوفي وسائر أهل العلم الجراد لا يحتاج إلى ذكاة وحكمه عندهم حكم الحيتان يؤكل الحي منه والميت ما لم ينتن‏.‏

1735- مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن حميد بن مالك بن خثيم أنه قال كنت جالسا مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده قال حميد فقال أبو هريرة ادهب إلى أمي فقل إن ابنك يقرئك السلام ويقول أطعمينا شيئا قال فوضعت ثلاثة أقراص في صحفة وشيئا من زيت وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها إليهم فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة وقال الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر فلم يصب القوم من الطعام شيئا فلما انصرفوا قال يا بن أخي أحسن إلى غنمك وامسح الرعام عنها وأطب مراحها وصل في ناحيتها فإنها من دواب الجنة والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان قال أبو عمر في هذا الخبر ما كانوا عليه من إتحاف الضيف النازل بهم والقادم عليهم والداخل إليهم بما يسر من الطعام وهذا عند الجميع منهم كان معهودا بالسنة المعمول بها والمقدم إليهم بالخيار إن قدر على الأكل أكل وإلا فلا حرج ومن حسن الآداب أن يأكل منه ما قدر عليه لتطيب بذلك نفس الذي قدمه إليه‏.‏

وأما قوله أحسن إلى غنمك فالإحسان إليها ارتياد الراعي الحائط لها المتبع بها مواضع الكلأ وجيد المرعى وقوله امسح الرعام فالرعام ما يسيل من أنوفها من المخاط وقوله أطب مراحها يريد بالكنس وإبعاد الطين وإزاحة الوسخ عنه والمراح الموضع الذي تأوي إليه ليلا أو نهارا وقوله صل في ناحيتها فمأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم صلوا في مراح الغنم وهذا أمر معناه الإباحة عند الجميع لأن المساجد أولى من مراح الغنم بالصلاة وفي إباحة الصلاة في مراحها دليل على إباحة بولها وبعرها وقد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك وفي معنى النهي عن الصلاة في أعطان الإبل في كتاب الصلاة تقول العرب مراح الغنم وعطن الإبل ومرابض البقر كل ذلك في الموضع الذي تأوي إليه وقد قيل إن عطن الإبل موضع انصرافها ومناخها عند السقي والثلة من الغنم قيل المئة ونحوها ودار مروان بن الحكم أشرف دار بالمدينة كانت ولذلك ضربت بها العرب المثل قال الشاعر‏:‏

ما بالمدينة دار غير واحدة *** دار الخليفة إلا دار مروانا

وفي هذا الخبر دليل على أن الحديث بالحدثان مباح إذا صح عند المخبر به بأي وجه كان ودليل أيضا على أن المدن تكثر فيها الفتن والتقاتل على الدنيا حتى تفسد وتهلك ويكون الفرار منها إلى القفار والشعاب بقطائع الغنم كما قال صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة‏.‏

1736- مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ومعه ربيبه عمر بن سلمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم سم الله وكل مما يليك قال أبو عمر هذا الحديث ظاهره الانقطاع في الموطأ وقد رواه خالد بن مخلد عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سم الله وكل مما يليك وهذا عندنا حديث مسند متصل لأن أبا نعيم سمعه من عمر بن أبي سلمة وقد أدرك أبو نعيم وهب بن كيسان هذا جماعة من الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله فكيف لا يدرك عمر بن أبي سلمة قال يحيى بن معين وهب بن كيسان أكبر من الزهري وقد سمع من بن عمر وبن الزبير حدثني أحمد بن فتح وخلف بن قاسم قالا حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثني أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الكوفي‏.‏

وحدثني عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني سفيان بن عيينة عن الوليد بن كثير عن أبي نعيم وهب بن كيسان سمعه من عمر بن أبي سلمة قال كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك وقد ذكرنا هذا الحديث عن عمر بن أبي سلمة من طريق أبي نعيم وغيره عنه من وجوه في التمهيد‏.‏

1737- مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال له إن لي يتيما وله إبل أفأشرب من لبن إبله فقال بن عباس إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتلط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب قال أبو عمر يحيى بن سعيد أحسن سياقه لهذا الخبر من الزهري رواه معمر وغيره عن الزهري عن القاسم بن محمد قال جاء رجل إلى بن عباس فقال إن في حجري يتامى وأموالهم عندي وهو يستأذنه أن يشرب من ألبانها وأن يصيب منها فقال ألست تلط حوضها وتبتغي ضالتها وتهنأ جرباها قال بلى قال فأصب من رسلها يعني لبنها ورواه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن بن عباس فذكره قال وزاد عبد الرحمن فاشرب من فضل الدر قال سفيان‏.‏

وحدثني بن نجيح قال قال لي القاسم بن محمد ما سمعت فتيا أحسن من فتيا بن عباس هذه في اليتيم إلا أن يكون حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال سفيان عن عمرو عن الحسن قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال في حجري يتيم وله مال أفآكل من ماله قال نعم بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله قال أفأضربه قال مما كنت منه ضاربا ولدك واختلف أهل العلم في ما يحل لوالي اليتيم من ماله بعد إجماعهم أن أكل مال اليتيم ظلما من الكبائر قال الله عز وجل ‏(‏إن الذين يأكلون أمول اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا‏)‏ ‏[‏النساء 10‏]‏‏.‏

وقال تعالى ‏(‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‏)‏ الإسرء 34 وقال ‏(‏واتبلوا اليتمى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أمولهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف‏)‏ ‏[‏النساء 6‏]‏‏.‏

فقيل الغني لا يحل له أكل شيء من مال اليتيم وقيل بل له أن يأكل منه بمقدار قيامه عليه وخدمته له وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له وهذا يشبه قول بن عباس المذكور وقد قيل يستقرض من ماله فإن أيسر رده وقال بهذه الأقوال جماعة من علماء السلف وليس هذا موضع تقصي القول في ذلك‏.‏

وأما قوله في حديث مالك تبغي ضالتها يعني تطلب ما ضل منها وما شرد حتى تصرفه وقوله تهنأ جرباها فالهنأ طلاء القطران يعني تطلي جرباها بالقطران قال دريد بن الصمة في الخنساء ونظر إليها وهي تهنأ الجربى من إبلها‏:‏

ما إن رأيت ولا سمعت به *** كاليوم هانئ أينق جرب

‏(‏متبدلا تبدو محاسنه‏.‏‏.‏‏.‏ يصنع الهنأ مواضع الثقب وقال إبراهيم بن هرمة‏:‏

لست بذي قلة مؤثلة *** أقط ألبانها وأسلؤها

لكني قد علمت ذو إبل *** أحسبها للقرى وأهنأها

وقوله وتلط حوضها وقد روي وتلوط حوضها أي تصلح الحوض وتسد المواضع التي يخرج منها الماء قال الشاعر ‏(‏وليطت حياض الموت وسط العشائر‏)‏ وقوله وتسقيها يوم وردها يعني يوم ترد الماء لتشرب وقوله غير مضر بنسل يعني لا يكون شريكا مضرا بالأولاد ينهاه عن السرف لأنه إذا سرف أضر بفصلانها والحلب بتحريك اللام اللبن نفسه والحلب بتسكين اللام مصدر حلب‏.‏

1738- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يؤتى أبدا بطعام ولا شراب حتى الدواء فيطعمه أو يشربه إلا قال الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا إلى آخر الحديث فالحمد لله - على الأكل والشرب مع التسمية - سنة مسنونة التسمية أولا والحمد لله آخرا والدعاء كثير لا يكاد يحصى وخيره ما كان الداعي بنية ويقين بالإجابة ويكفي من ذلك قوله في أول الطعام بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره الحمد لله رب العالمين اللهم بارك لنا في ما رزقتنا وقنا عذاب النار‏.‏

1739- سئل مالك هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها فقال مالك ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال قال وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله أو مع أخيها على مثل ذلك ويكره للمرأة أن تخلو مع الرجل ليس بينه وبينها حرمة قال أبو عمر في كتاب الله تعالى شفاء من هذا المعنى قال الله عز وجل ‏(‏وقل للمؤمنت يغضضن من أبصرهن‏)‏ ‏[‏النور 31‏]‏‏.‏

كما قال‏)‏ قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم‏)‏ ‏[‏النور 30‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بذي محرم ولا تسافر امرأة بريدا فما فوقه إلا مع ذي محرم وقال جرير سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لك النظرة الأولى وليس لك الأخرى وهذا تفسير حديث جرير أنه أمره أن يصرف بصره عن النظرة الثانية لأن النظرة الأولى غلب عليها بالفجاءة ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته وزمنه خير من زمننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرم نظر شهوة يرددها وقال عاصم الأحول قلت للشعبي الرجل ينظر إلى المرأة لا يرى منها محرما قال ليس لك أن تنقبها بعينك قال أبو عمر فأين المجالسة والمؤاكلة من هذا وقال مجاهد في قول الله عز وجل ‏(‏يا أيها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمنكم‏)‏ ‏[‏النور 58‏]‏‏.‏ قال عبيدكم المملوكون ‏(‏والذين لم يبلغوا الحلم منكم‏)‏ ‏[‏النور 58‏]‏‏.‏

قال الذين لم يحتلموا من أحراركم وقال بن جريج قلت لعطاء وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا قال واجب على الناس جميعا أن يستأذنوا أحرارا كانوا أو عبيدا وقال سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال ‏(‏ليستئذنكم الذين ملكت أيمنكم‏)‏ قال النساء ما عنى بها إلا النساء قال سفيان نحن نقول عنى بها الرجال إذا بلغوا الحلم استأذنوا وقال أبو إسحاق الفزاري قلت للأوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن قال بن أربع سنين قال لا يدخل على المرأة حتى يستأذن قال أبو عمر قد جاءت رخصة في المملوك الوغد وفي معاني من هذا الباب تركت ذكرها لأني لم أر من الصواب إلا أن يكون المملوك من غير أولى الإربة فيكون حكمه حكم الأطفال الذين لا يفطنون لعورات النساء وكم من المماليك الأوغاد أتى منهم الفساد‏.‏